الدهر يومان :
وجهت رسالة للشيخ يوسف القرضاوي من قبل أحد الساخطين في الحياة :
دلني ـ يا فضيلة الشيخ ـ إلى الطريق القويم : لماذا يضطهدني الزمان؟ ولماذا تحاربني الأقدار؟ ولماذا يكيد لي، ويحسدني الناس؟
الأخ العزيز... أحمد إليك الله تعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وآله وصحبه، وأحييك بتحية الإسلام، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته.. أما بعد: فقد قرأت رسالتك، ولم يغمر وجهي الغضب منها كما توقعت، بل عصر قلبي الألم لما احتوته، فإن المسلم الحق يذوب قلبه حسرات، إذا وجد إنساناً أيَّ إنسان يُعذَّب، فكيف بأخ مسلم تربطني به عقيدة الإسلام؟!
كل ما أريده أن تدع أنت الغضب والانفعال، وتنظر في أمر نفسك بهدوء واتزان، بدل أن تصبَّ جامَّ سخطك على القضاء والقدر، وعلى الأرض والسماء، وعلى الخلق والخالق.
أريد يا أخي أن تتذكر حقائق مهمة يجب أن تضعها نصب عينيك:
الحقيقة الأولى: أن المؤمن البصير لا ينبغي أن ينظر إلى ما ينقصه ويفتقده فقط، بل يجب أن ينظر أولاً إلى ما عنده من نعم الله تعالى. وسيجد أن ما عنده كثير، ولكنه لا يراه، أو يراه ولكنه يبخسه، ورضي الله عن عروة بن الزبير، فقد نزلت به مصيبتان في يوم واحد: رفست فرس ابناً له فمات، وقطع الطبيب رجلاً له، حتى لا يسري الداء في بدنه كله، ولكنه مع هذا حمد الله تعالى، إذ نظر إلى ابنه المقتول، وإلى ابنه الآخر، فقال: اللهم إن كنت أخذت فقد أعطيت، ونظر إلى رجله المقطوعة، ورجله الأخرى السليمة، وقال: اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت!، فكان نظره إلى النعمة التي بقيت له، فرضي وشكر، ولو نظر إلى النعمة التي حُرمها فقط لسخط وجزع.
وأنت لو نظرت إلى نفسك لوجدت عندك نعماً جمة، لا تريد أن تعترف بها، أو لعلك غافل عنها.
الحقيقة الثانية : أن الإنسان ـ بحكم قصوره البشري ـ لا يدري: أين يكون خيره، وأين يكون شره، فهو يحكم بالظاهر، ولا يعلم الباطن، وينظر إلى الحاضر، ولا يعلم المستقبل، وينقاد للعواطف، ولا يعمل العقل كما ينبغي، ولهذا قال الله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون(216) (البقرة).
وما يدريك يا أخي أن الله تعالى يريد أن يصهرك في بوتقة الابتلاء، ويربيك في أتون المحن، كما ربى أنبياءه، ورسله العظام، الذين ابتلوا، فصبروا وصابروا، حتى بلّغوا رسالتهم، وهدى الله بهم من هدى، وأقام الحجة على من أعرض وكفر؟
هل كان يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ يعلم أن المحن التي نزلت به طوال حياته، ستنتهي به إلى أن يصبح عزيز مصر، وأن تكون في يده خزائن الأرض: المالية والزراعة والتخطيط والتموين، وأن يحل الله على يديه مشكلة القحط، ويخرج به مصر وما حولها من أزمة الجوع والجفاف؟؟
إن علينا أن نواجه المتاعب والآلام بصبر جميل، ولا نعتقد أن البلاء الذي ينزل بنا عقوبة من الله لنا، بل كثيراً ما يكون هدية من الله ـ سبحانه ـ لنا من حيث لا نشعر. ولولا ذلك لما كان الأنبياء أشد الناس بلاء في هذه الدنيا.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء ينزل بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
الحقيقة الثالثة: أننا لا ينبغي أن نحمل إخفاقنا في حياتنا، وفشلنا في أمور دنيانا على القدر وحده، ونبرِّئ أنفسنا من كل عجز وتقصير، فإن نتيجة هذا اللون من التفكير أن يقعد المرء عن كل محاولة لإصلاح أمره، وعلاج مشكلته، ويقول: هذا ما قدَّر الله لي أو عليَّ، ولا يتقدم خطوة إلى الأمام.
والمؤمن ـ الذي فقه أحكام الله في شرعه، وسنن الله في خلقه ـ يؤمن بالقدر، ولا يحتج به، ويرجع على نفسه باللوم، بدل أن يرجع على الدهر بالسخط، وقد قال الله تعالى للمؤمنين أصحاب رسوله الكريم بعد غزوة أحد وما أصابهم فيها: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (آل عمران:165).
وقد شاع على ألسنة الناس من قديم: الدهر يومان: يوم عليك، ويوم لك، ودوام الحال من المحال.
فاحتفظ يا أخي العزيز بإيمانك، ولا تفقد أملك في الغد لحظة واحدة وثق أن مع اليوم غداً، وأن غداً لناظره قريب فانتظر مطلع الفجر، فإن أشد سويعات الليل سواداً وحلكة هي السويعات التي تسبق بزوغ الفجر.
ثبَّت الله فؤادك، وقدميك على الحق، وشرح باليقين صدرك، ويسَّر لك أمرك، وحلَّ عُقدك من فضله. آمين.
دمتم برعاية الله
منقول
وجهت رسالة للشيخ يوسف القرضاوي من قبل أحد الساخطين في الحياة :
دلني ـ يا فضيلة الشيخ ـ إلى الطريق القويم : لماذا يضطهدني الزمان؟ ولماذا تحاربني الأقدار؟ ولماذا يكيد لي، ويحسدني الناس؟
الأخ العزيز... أحمد إليك الله تعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وآله وصحبه، وأحييك بتحية الإسلام، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته.. أما بعد: فقد قرأت رسالتك، ولم يغمر وجهي الغضب منها كما توقعت، بل عصر قلبي الألم لما احتوته، فإن المسلم الحق يذوب قلبه حسرات، إذا وجد إنساناً أيَّ إنسان يُعذَّب، فكيف بأخ مسلم تربطني به عقيدة الإسلام؟!
كل ما أريده أن تدع أنت الغضب والانفعال، وتنظر في أمر نفسك بهدوء واتزان، بدل أن تصبَّ جامَّ سخطك على القضاء والقدر، وعلى الأرض والسماء، وعلى الخلق والخالق.
أريد يا أخي أن تتذكر حقائق مهمة يجب أن تضعها نصب عينيك:
الحقيقة الأولى: أن المؤمن البصير لا ينبغي أن ينظر إلى ما ينقصه ويفتقده فقط، بل يجب أن ينظر أولاً إلى ما عنده من نعم الله تعالى. وسيجد أن ما عنده كثير، ولكنه لا يراه، أو يراه ولكنه يبخسه، ورضي الله عن عروة بن الزبير، فقد نزلت به مصيبتان في يوم واحد: رفست فرس ابناً له فمات، وقطع الطبيب رجلاً له، حتى لا يسري الداء في بدنه كله، ولكنه مع هذا حمد الله تعالى، إذ نظر إلى ابنه المقتول، وإلى ابنه الآخر، فقال: اللهم إن كنت أخذت فقد أعطيت، ونظر إلى رجله المقطوعة، ورجله الأخرى السليمة، وقال: اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت!، فكان نظره إلى النعمة التي بقيت له، فرضي وشكر، ولو نظر إلى النعمة التي حُرمها فقط لسخط وجزع.
وأنت لو نظرت إلى نفسك لوجدت عندك نعماً جمة، لا تريد أن تعترف بها، أو لعلك غافل عنها.
الحقيقة الثانية : أن الإنسان ـ بحكم قصوره البشري ـ لا يدري: أين يكون خيره، وأين يكون شره، فهو يحكم بالظاهر، ولا يعلم الباطن، وينظر إلى الحاضر، ولا يعلم المستقبل، وينقاد للعواطف، ولا يعمل العقل كما ينبغي، ولهذا قال الله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون(216) (البقرة).
وما يدريك يا أخي أن الله تعالى يريد أن يصهرك في بوتقة الابتلاء، ويربيك في أتون المحن، كما ربى أنبياءه، ورسله العظام، الذين ابتلوا، فصبروا وصابروا، حتى بلّغوا رسالتهم، وهدى الله بهم من هدى، وأقام الحجة على من أعرض وكفر؟
هل كان يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ يعلم أن المحن التي نزلت به طوال حياته، ستنتهي به إلى أن يصبح عزيز مصر، وأن تكون في يده خزائن الأرض: المالية والزراعة والتخطيط والتموين، وأن يحل الله على يديه مشكلة القحط، ويخرج به مصر وما حولها من أزمة الجوع والجفاف؟؟
إن علينا أن نواجه المتاعب والآلام بصبر جميل، ولا نعتقد أن البلاء الذي ينزل بنا عقوبة من الله لنا، بل كثيراً ما يكون هدية من الله ـ سبحانه ـ لنا من حيث لا نشعر. ولولا ذلك لما كان الأنبياء أشد الناس بلاء في هذه الدنيا.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء ينزل بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
الحقيقة الثالثة: أننا لا ينبغي أن نحمل إخفاقنا في حياتنا، وفشلنا في أمور دنيانا على القدر وحده، ونبرِّئ أنفسنا من كل عجز وتقصير، فإن نتيجة هذا اللون من التفكير أن يقعد المرء عن كل محاولة لإصلاح أمره، وعلاج مشكلته، ويقول: هذا ما قدَّر الله لي أو عليَّ، ولا يتقدم خطوة إلى الأمام.
والمؤمن ـ الذي فقه أحكام الله في شرعه، وسنن الله في خلقه ـ يؤمن بالقدر، ولا يحتج به، ويرجع على نفسه باللوم، بدل أن يرجع على الدهر بالسخط، وقد قال الله تعالى للمؤمنين أصحاب رسوله الكريم بعد غزوة أحد وما أصابهم فيها: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (آل عمران:165).
وقد شاع على ألسنة الناس من قديم: الدهر يومان: يوم عليك، ويوم لك، ودوام الحال من المحال.
فاحتفظ يا أخي العزيز بإيمانك، ولا تفقد أملك في الغد لحظة واحدة وثق أن مع اليوم غداً، وأن غداً لناظره قريب فانتظر مطلع الفجر، فإن أشد سويعات الليل سواداً وحلكة هي السويعات التي تسبق بزوغ الفجر.
ثبَّت الله فؤادك، وقدميك على الحق، وشرح باليقين صدرك، ويسَّر لك أمرك، وحلَّ عُقدك من فضله. آمين.
دمتم برعاية الله
منقول
تعليق